في عالم الاختصاص العسكري، تكثر المفاهيم، وتتعدد المصطلحات، وحيث أن هذا العالم ـــ العالم العسكري ــ من العوالم التي قال الله سبحانه فيها أنها من الأمور (الكُره) لما فيها من مشقة وتعب نصب ومتطلبات. ومع ذلك كثير هم الذين يلجون هذه (الدنيا) على غير علم، فيفتون فيما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، فيختلط الحابل بالنابل، وتضيع (الطاسة). إلّا أن الخطأ في هذا النوع من الأعمال والإجراءات ليس كغيره من الأخطاء الممكن التراجع عنها؛ فكلفة الخطأ في مجالات العسكر والأمن: دماء وأشلاء، وحبس حريات، ومصادرة إرادات. ومن المفاهيم التي تتكرر وتُسمع كثيراً عند الحديث في المجال العسكري، مفاهيم من قبيل: الجهد الرئيسي، والجهد الثانوي، والجهد الخداعي، والاتجاه الرئيسي للعمليات، ومناطق المسؤولية، ومنطقة العمليات، والاحتياط بأنواعه، وكثير من المصطلحات التي يقتضي كل منها مقتضيات عدة، حيث يصبح المفهوم بلا معناً، ولا قيمة له إن عُزل عن مقتضاه، أو لم يعمل بما يقتضيه. وفي هذا حديث يطول يعرفه كل صاحب اختصاص، وابن فن و(كار)، نريح القراء من التطرق لها حتى لا تتشعب بنا الدروب، ونذهب بعيداً عن المطلوب.
في هذا الورقة سنحاول الحديث باقتضاب عن مفهوم الاحتياط الاستراتيجي الذي كثيراً من نسمعه، أو نقرأه، وقليلاً ما نتطرق إلى مقتضاه ومتطلباته، وما هو المترتب على القائد، أو مجموعة القيادة من متطلبات إن هي أطلقت مصطلح الاحتياط الاستراتيجي على جزء من قدراتها، أو على قسم مما تملكه من إمكانيات، الأمر الذي ستتطرق له هذه الورقة بشيء من التفصيل، رابطة هذا الأمر ــ مفهوم الاحتياط الاستراتيجي ــــ بما نحن في حضرته من موقف، عنينا به حرب "طوفان الأقصى" التي تشارف على دخول عامها الثاني، كون حركات العمل الوطني الفلسطيني قاطبة ( فلقت راسنا) قبل الحرب وهي تتحدث عن أهلنا الشرفاء الكرام ــ وهم كذلك ـــ في المناطق المحتلة عام الثمانية والأربيعن، من أنهم الاحتياط الاستراتيجي للمقاومة!! وأن هذا الاحتياط سيفُعّل، ويشّغل في ساعات العسرة، وعندما نخوض حرباً حقيقية مع هذا العدو المحتل، وهو ــ التشغيل و التفعيل ـــ الأمر الذي لم نره حتى هذه اللحظة، وبعد مضي ما يزيد عن 600 يوم من (مطحنة) غزة، مما يثير كثيراً من الأسئلة، والتي تبقى بدون أجوبة، وعلى رأسها السؤال الذي يقرع رؤوسنا منذ بداية الحرب وهو: إن لم يكن هذا هو الوقت الذي يُستخدم فيه الاحتياط الاستراتيجي؛ كله أو جزءاً منه، ويزج به في المعركة، فمتى يستخدم ومتى يدفع به؟! سؤال برسم الإجابة عند من يحمل المسؤولية والأمانة!!
سنتحدث عن مفهوم الاحتياط الاستراتيجي ومقتضياه، حتى لا نبقى نتحدث بعناوين، ومصطلحات دون معرفة مدلولاتها، وما يترتب عليها، وما تقتضيه، ليقف بعد ذلك كل منا عند مسؤولياته، ولا يُحمل غيره خطأ فهمه، أو تقصير إجرائه.
في أصل الموضوع؛ نحن نتحدث عن الاحتياط الذي تتركه القيادة ــ مطلق قيادة ــ في تصرفها، فلا تدفع به إلى العمل، أو المعركة، إلّا في حالات العسرة، أو الضيق، أو المواقف المتعثرة المستعصية، التي تتطلب (حلحلة) للخروج من حالة الاستعصاء أو التوقف الذي تشهده. كما أن هذا الاحتياط يُدفع به عندما يرى القائد أن جزءاً من قواته المناورة قد حققت نصراً في اتجاه ما؛ فيعزز من قدراتها حتى تُثّبت نفسها في المكان الذي وصلت له، وتطور حركتها في الإتجاه الكلي للعمليات. وهنا نحن نتحدث عن ثلاثة أنواع من الاحتياط هي :
وهو جزء من قدرات الدولة، أو التشكيل القتالي، أو حركة المقاومة، أو الحركات السياسية، تبقيه في يد القيادة، لا تتصرف فيه، ولا تحركه، إلّا في حالات الخطر الوجودي الذي يتهددها، أو لتطوير الموقف السياسي، أو القتالي، بما يوصل إلى حسمه، والانتهاء منه لصالحها. هذا باختصار شديد.
وهنا لابد من الحديث في بعض تفرعات وتشعبات هذا المصطلح ومقتضياه، والتي من أههما ما يأتي:
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الاحتياط الاستراتيجي، حتى لا يطول بنا المقام والمقال، ففي هذا المجال هناك كثير مما يقال ويُفعل، وفيما قيل كفاية.
هو احتياط يكون بيد قائد التشكيل المناور، والذي ـــ التشكيل المناور ـــ لا يقل عن مستوى فرقة، بحيث يكون في يد قائدها جزء من قدراته القتالية، يدفعه في الاتجاه المناسب، لتطوير العمليات، أو للسيطرة على مخاطر وتهديدات. فإن كان قائد الفرقة يملك تشكيلاً قتالياً لا يقل عن أربعة ألوية قتالية ـ مثلاً ـــ مع كامل قدراتها النارية والإدارية؛ فإنه بالعادة يحتفظ بما لا يقل عن كتية معززة، في احتياطه العملياتي، أو ما يعرف أيضاً باحتياط القيادة.
هنا نحن نتحدث عن احتياط، صغير الحجم، يرافق الوحدات القتالية الميدانية المناورة، لا يُزج به في القتال إلّا في مواقف تتطلب تعزيز الاندفاع، أو وقف التقهقر، هو احتياط عضوي من ضمن (الشكيل) المناور؛ فقائد الفصيل لا يزج به كاملاً في الاشتباكات والاحتكاكات، بل يبقي جزءاً منه في الاحتياط، وكذا قادة السريا والكتائب، يخصصون جزءاً من قدراتهم البشرية والمادية كاحتياط يُلجئ له عند الضرورة.
نكتفي بهذا القدر من الحديث التأصيلي في المفاهيم ومقتضياتها، ونعود إلى أصل الموضوع، وهو وصف أهلنا الشرفاء والكرام في مناطق الثمانية والأربعين من أنهم الذخر والاحتياط الاستراتيجي لمعركتنا مع هذا العدو، لنسأل مجموعة من الأسئلة التي تساعد في فهم الموقف، وما نحن فيه من (عتب) عليهم (والعتب على قدر المحبة)، كونهم لم يظهروا الدعم، والمؤازرة اللازمين والمتوقعين لأهلنا في غزة، وكذا في الضفة الغربية، وهم ـــ أهل الثمانية والأربعين ــ من لو انخرطوا في بعض أشكال الدعم المدني والذي على رأسه الإضراب عن العمل مثلاً، لشلوا الكيان المؤقت شللاً رباعياً، ولقطّعوا شرايين إمداد آلة قتله في غزة والضفة الغربية، ولأوقفوه على (رجل ونص) حائراً خائراً لا يلوي على شيء، لذلك (نعتب). ولكن لإنصاف أهلا وناسنا في هذا المناطق المحتلة، وحتى لا نرمي على عواتقهم سوء تصرفنا، وقلة فهمنا لهم ولدورهم كاحتياط استراتيجي للمقاومة، نسأل هذه الأسئلة والتي من أهمها:
أسئلة تطول، نكتفي بما ذكرنا منها.
وعليه، وأمام ما نحن فيه من موقف، كيف السبيل؟ وما هو المقترح لتصدق الصفة على الموصوف، ويعمل بالمقتضى المطلوب والمعروف؟
هي أمور بديهية، لا تحتاج كثيراً من الشرح والتوصيف، نذكرها على شكل عناوين، كون التفصيل فيها هنا لا يستقيم، ومن أهمها ما يأتي:
هذه توصيات سبع، وما خفي أعظم وأهم. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.