قراءة سلوك العدو في غزة مقاربة للموقف من زاوية أخرى

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

منذ دخول الإدارة الأمريكية الجديدة ممثلة بالمبعوث "وتكوف" على خط الوساطة بيننا وبين العدو، وما تخلل هذا المسار من أخذ ورد، ومع كثرة الشواهد والأدلة والقرائن التي تقول أن هذا الوسيط ما كان، ولن يكون يوماً من الأيام نزيهاً أو أميناً، وأنه ينسق كل خطواته مع عدونا، وأنه لا يقدم على أي خطوة دون التفاهم معه ـ العدو ـ عليها، مع المحافظة على هامش حفظ ماء وجه له ـ للوسيط ـ بحيث يصرح هو وإدارته أحياناً بما يشي أن هناك فرقاً وفراقاً بينه وبين الكيان المؤقت، فهذا السلوك من لوزم عدة الشغل طبعاً، والخداع الذي يمارسه هو ووكيله في المنطقة ـ الكيان المؤقت ـ علينا. 

ولما كانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ممثلة بقيادتها، ووفدها المفاوض تسابق الزمن، الذي ثمنه دماء وأشلاء، تسابقه لتصل إلى حل يوقف شلال الدم الذي يسيل في غزة، لذلك كانت ملزمة بالتعاطي مع أي فرصة تُطرح عليها في سبيل هذه الغاية الأسمى. ولما وصل الموقف إلى ما وصل له من قتل وتهجير وهدم ممنهج، بحيث وصلت سكينة العدو إلى عظم شعبنا، بعد أن أعملت في لحمه تقطيعاً. 

ولما كان عدونا، وفقاً لما نقرأ ونسمع ونشاهد، يمر في (أزمة) سياسية؛ داخلية وخارجية، كما أن هذه الأزمة وفقاً لما يُنشر ويقال، بدأت تتسرى إلى مؤسسته العسكرية، فهو يعاني أزمة في استدعاء الاحتياط، وأزمة في استجابة بعض ضباطه وعسكره للالتحاق بالخدمة، الأمر الذي يُخلص معه بعضنا للقول فيه: أن هامش مناورة القيادة العسكرية للعدو، وعلى مستوى العديد، بدأت تضيق، مما يعني أن الزمن في صالح من يصبر في هذه الأزمة أكثر. 

ولما كان معظم المحللين، والمقدرين، والباحثين، ومن يتصدرون الشاشات، ويعتلون المنابر، ممن نحب ونكره ـ مع احترامنا للجميع ـ كلهم يصرخون بأعلى صوتهم أن العدو مأزوم، وأنه في الربع الساعة الأخيرة من حربه، وأن المقاومة تحقق إنجازات بصمودها، قل نظيره، طبعاً وهذا صحيح لا غبار عليه، كما أنهم يتحدثون عن صمود الجبهة الداخلية، وأنها مع خياراتنا السياسية والعسكرية، وهذا أيضاً فيه من الصحة ما فيه، الأمرـــــــ تحليل المحللين والساسة المقدرين ــــــ يدفع المواطن العادي، إن في غزة أو خارجها إلى القول أن الأمور (قمرة وربيع) وأننا في نهاية النفق، الذي يلوح في آخره ضوء النصر وهزيمة العدو، إن شاء الله. 

ولما كان العدو يُعمِل قتلاً وتدميراً، واستهدافاً لأصول المقاومة البشرية والمادية، كما يضيّق على حاضنتها الاجتماعية، ويحقق إنجازات، ويحاول فرض شروط. كما أن كل ما نراه ونسمعه ونقرؤه في التقارير والمقالات، وعلى الشاشات، من حديث عن أزمة العدو، أو قيام العالم في وجهه، أو المظاهرات التي تخرج كل يوم في كيانه المؤقت طلباً لإتمام الصفقة، ووقفاً للحرب، كل هذه الأمور لم تنعكس سلباً على مناورة العدو في مسرح عمليات غزة، الذي ـــ مسرح عمليات غزة ــــ يشكل معياراً لصحة أو سقم كل ما نسمع أو نقراً، أو نحلل. 

لما كان الموقف على ما قيل؛ أعتقد أننا بحاجة إلى مقاربة له من زاوية أخرى. زاوية تبدأ ليس من الحديث عن تقصير المحللين، أو المقدرين في قراءتهم للموقف وتحليل جزئياته، كما أنها لا تبدأ من مسار عمل الوفد المفاوض، وطرق عمله، ومن فيه وما فيه من أشخاص؛ مقدرٌ جهدهم، مشكورٌ سعيهم. كما نعتقد أنه من الخطأ أيضاً تحميل غيرنا مسؤوليات عملنا، فتعلوا أصواتنا ضد هذا النظام، أو تلك الدولة، فهذا ـ فيما نحسب ـ لا يستقيم، فكل له أولوياته، وكل عنده مسؤولياته. إن المقاربة المطروحة في هذه الورقة تبدأ من المعلومات، وفقط المعلومات! كيف؟ 

من البديهيات، والمسلمات، أن المعلومات، والمعطيات، هي ركيزة أي قرار، أو توجه، أو تحرك وإجراء، وعليه؛ يعتمد صحة هذه الأمور ــ القرارات والإجراءات ـ على ما بُنيت عليه من معلومات ومعطيات. كما أن صحة قراءة وتحليل واستخلاص ما بين سطور هذه التقارير والمعلومات، هو المعطي المهم والنتيجة المطلوبة لفهم نوايا الطرف الآخر، فلا قيمة لمعلومة أو معطاً أو تقرير أو تحليل لا يُخمن أو يتوقع ما هي نوايا العدو المستقبلية. والمعلومات في أصل جمعها والحصول عليها تعتمد على مصادر، منها ما هو متعارف عليه باسم "المصادر المفتوحة"، التي تشكل وسائل الاعلام؛ الحديثة منها والتقليدية الجزء الأكبر منها، وهي متوفرة في متناول كل من يرد، وكل مهتم. كما أن منها ما يعرف بـ " المصادر المغلقة"، غير المتاحة للعامة؛ كوسائل التنصت، والجمع السري، والمصادر بشرية، و ...، وهي أمور غير متوفرة إلّا لدول، وأجهزة، وكيانات، في أصل تركيبها، تمتلك حكماً مثل وسائط الجمع هذه. وهنا من البديهي القول أن مصادر المعلومات المغلقة، أجود من تلك المفتوحة؛ إذا خضعت في جمعها وتحليلها والاستفادة منها إلى سلسلة من السياسات والضوابط والإجراءات، وهذه (خرافية) طويلة يلس هنا الحديث عنها.

من هنا نبدأ؛ فمنذ بداية الحرب في 07 10 2023 وحتى الآن، وكلنا بلا استثناء يعكف على قراءة ومتابعة ورصد كل ما يصدر عن العدو، وهذا مطلوب ومهم، كوننا نستطيع أن نزعم أن ما لدينا من مصادر معلومات عن العدو؛ ليست إلّا من النوع المفتوح، المتاح للجميع، فضلاً عن أن الثورة الرقيمة التي نعيشها لم تترك (ستر مغطى) على شيء، لذلك وجبت المتابعة، وتحتم الرصد. كما أن ما نملكه من معطيات ومعلومات جزء منه محصل من خلال علاقاتنا وصداقاتنا، الرسمية وغير الرسمية. أما الجزء الأخير من المعلومات والمعطيات التي نستخدمها في أعمالنا فهي من مصادرنا ومعارفنا وقدراتنا الشخصية. 

إذن فالقرار ــ مطلق قرار ـ الذي يُتخذ مبني على : 

  1. معلومات ومعطيات من المصادر المفتوحة والمغلقة، الصديقة والمعادية.
  2. علاقاتنا وصداقاتنا الرسمية وغير الرسمية. 
  3. قدراتنا الذاتية، وأدوات قراءتنا وتحليلنا الفردية والجماعية.

فإذا كان الموقف، مبني على ما يُقال ويقرأ ويُحلل من معلومات ومعطيات، والتي وصفنا مصادرها سابقاً. ولما كانت معظم هذه المعطيات كما تُقرأ وتحلل، ويصرح عنها على الشاشات، وفي الصحف، والمجلات، ووسائل التواصل والمنصات. ولما كانت هناك شواهد تؤيد مثل هذه التحليلات والنتائج والخلاصات؛ فأزمة العدو الداخلية والخارجية لها ما يؤيدها في الواقع، فهو في أزمة مع المعارضة، وفي أخرى مع فريق حكمه المتطرف، وثالثة مع أصدقائه الأوربيين والأمريكيين، فضلاً عن العرب المستعربين، وصوت جنوده يرتفع، وصراخهم يعلو، فهو ـ العدو ـ صحيح ليس في أحسن أحواله، لكن ما يهم، وما يبنى عليه المشهد النهائي لهذه الحرب، هو ما يحصل في ميدان معركتها، وما يستطيع العدو أن يثبّته من حقائق على الأرض، وهنا نسجل التالي: 

  1. تدمير ممنهج للحجر والبشر، والحاضنة الشعبية.
  2. تحييد لكثير من الأصول البشرية والمادية للمقاومة. 
  3. (خلق) واقع إنساني واجتماعي سيحمل الناس ـ كل لسببه ـ على طلب الخروج من غزة بعد وقف الحرب. 

وفي هذا ــ النقاط الثلاث السابقة ـــ تحقيق لأهم هدف للعدو ألا وهو: القضاء على قدرات المقاومة العسكرية والسلطوية، كأهم أداة في إفشال نموذج غزة المقاوم، فلا يخطر في بال أحد محاولة الإقتداء به أو تقليده. فإن لم تكن هذه هي أهداف العدو التي نسمع ونقرأ ونشاهد على شاشات الفضائيات ـ الصديقة والعدوة ـ  أن العدو لم يحققها، ولن يحققها! فما هي الأهداف إذن؟!

عوداً على بدء المسار الذي يبدأ بالمعلومات والمعطيات، صحة وسقماً، وتفكيكها وتحليلها، لفهمها والبناء عليها. فإن كانت مصادرها من حيث قيل ــ ما يقوله العدو وينشره، الأصدقاء والحلفاء وما يقدمونه، والذات وقدرتها على القراءة المتجردة غير الرغائبية والمنحازة ــ، وحيث أن مدلولات تلك المعلومات وما تتحدث عنه من أزمة للعدو على كافة الصعد، هي ـ المدلولات ــ على غير ما يُشاهد في مسرح عمليات غزة !! ألّا يستدعي ذلك منا ـ بلا استثناء ـ مراجعة: 

  1. مصادر معلوماتنا؛ المفتوح منها قبل المغلق. 
  2. طرق قراءتنا وتحليلنا، وما نستخدمه من أدوات، للتحليل والفهم.
  3. كيفة الإستثمار والاستفادة لما يقرأ ويكتب ويحلل. 

ماذا لو كان كل ما يكتب وينشر ويقال، عند العدو وعنه، والذي يُشكل جزء مهماً، من مصادر كل من هو معني بمعرفة هذا العدو والتعامل معه، وهو ـ العدو ـ يعرف أن ما ينشره ويكتبه ويسمح بالإطلاع عليه بعد أن يعمل فيه مقص الرقيب قصاً وحذفاً، يشكل (الوجبة) الرئيسية التي (يتغذى) منها، وعليها أصحاب الرأي والقرار من أعدائه، ماذا لو كانت هذه المواد المنشورة، موجهة، وملغومة، وجزء من عملية التوجيه والتضليل التي تخدم أهداف العدو وغاياته؟ 

سؤال برسم الإجابة للجميع. 

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023