الحرب، متى يؤخذ قرار بدئها؟ وما هي محركات وقفها؟ حديث في الأصول

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: بين يدي الحديث: 

قال ربنا سبحانه في محكم التنزيل: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة(216)

وقال النبي الشهيد صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، فقام فيهم فقال: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وأسالوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبِروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».

فالحرب والقتال كُروه لا يَلجأ له إلّا كل مضطر، ففيهما من العنت والتعب، وفقد الأراح والممتلكات، ما جعلهما آخر الدواء لمعالجة الأزمات التي تعترض الدول والكيانات السياسية، كما أن ما يصاحبها من إعجاب بالنفس، والركون للذات والأدوات والاعتماد عليها، ما قد يُنسي معية الله ولطفه ورعايته، الأمر الذي ينافي التوكل عليه سبحانه. 

ليس الهدف من هذه المقالة الحديث في الشق الشرعي والديني للحرب، فهذا مكانه غير هذا المكان، كما أن له أهله وناسه. إنما الهدف من هذا الحديث هو ما يتبادر إلى الذهن من أسئلة حول الدوافع التي تقف خلف وقف الحرب، وقطع التماس مع العدو، والركون إلى العمل السياسي والدبلوماسي الذي يعقب جولات القتال، حيث يبدو لبعض المراقبين والمتابعين لتطورات الأزمة، وصولاً للحرب، أن وقف النار وقطع التماس ليس في مصلحة طرف، بدى أنه متقدم في جولاتها وصفحاتها، فمقتضى العقل والمصلحة، أنه إن كان في تقدم، وتسجيل إنجازات؛ أن يبقى ضاغطاً (طاحشاً) حتى يقضي على عدوه ويسحقه ويفرض عليه الاستسلام!. متى تنتهي حالة الاتشباك أو الحرب؟ هذا ما ستحاول هذه الورقة الإجابة عليه بشكل سريع ومتقتضب.

لا تُقدم الوحدات والكيانات السياسية، على خوض الحروب، والدخول في نزاعات خشنة ما لم تتوفر لها مجموعة من المحفزات والمشجعات التي تشجع على الدخول في أعقد نشاط بشري، عنينا به الحرب. ومن أهم المحفزات التي تساعد على أخذ قرار الحرب؛ تقدير صاحب القرار أن النصر فيها حليفه، كما أنها سوف تكون حاسمة سريعة لا تتمدد زماناً ولا مكاناً، فضلاً عن أن حساب الجدوى والأكلاف فيها، راجحة للأولى على حساب الثانية، وفي غير هذه الصورة؛ فإن الإقدام على أخذ قرارها والشروع فيها لا يعدو كونه مغامرة؛ إن كانت معروفة البداية، فإنها لن تكون معروفة النهاية؛ لا شكلا ًولا مضموناً.

هذه التوطية السريعة بين يدي الحديث، وإن كانت  مقتضبة، مختصرة، إلّا أنها مهمة لفهم الصورة الكلية للحرب وملابسات الدخول فيها، كون طريقة وشكل وزمان الخروج منها، أهم بكثير من قرار الدخول فيها. 

 

ثانيا: متى يؤخذ قرار الحرب؟

  1. عندما تتعذر الحلول السياسية والدبلوماسية:

فحل المشاكل يبدأ بمقاربات غير خشنة، منعاً لتفاقم الموقف، وحرصاً على تطويق ذيول الأزمة، وهرباً من الدخول في موقف قد يفضي إلى أسوء مما كان عليه قبل الحرب أو الاشتباك الخشن، ولكن في حال تعذر الحل عبر السبل السياسية والدبلوماسية، الناعمة منها ونصف الخشنة، فإنه لا مفر من الذهاب نحو السبل الخشنة، علّها تُلّين المواقف، وتفتح ما أغلق من سبل، وتحل ما نتج عن الخلاف من عُقد.

  1. عندما تُهدد المصالح الحيوية للدول والكيانات السياسية: 

نحن نعيش في عالم تتصارع فيه المصالح، يطمع القوي بالسيطرة على موارد الضعيف، وتبحث فيها الدول عما يؤمن لها ولشعوبها مصالحهم الحيوية، ورفاهية العيش والتنمية المستدامة، فإن تم التعرض لهذا المصالح بالتهديد، أو سولت لأحد نفسه التجاوز على ما عُرّف أنه مصلحة حيوية لهذه الكيانات، ولم تجدى السبل الدبلوماسية في وقف هذا التعدي أو التجاوز؛ فإن الدول تقف للدفاع عن هذه المصالح، بكل ما تملك من قوة، على قاعدة أن ما تملكه من قدرات، وما راكمته من خبرات، إنما هو للدفاع عنه هذه المصالح، وتلك المُقدرات. وهذه المصالح تبدأ بالحفاظ على وحدة وسيادة إقليم الدولة الجغرافي، ومنع العبث في نسيجه الاجتماعي، ولا تنتهي بالدفاع عن مصدر ماء هنا، أو بئر نفط هناك. 

  1. عندما يكون الكيان السياسي ضمن حلف أمني أو عسكري يوجب عليه المشاركة في الحرب مع حليفه: 

من طبيعة الحياة البشرية، القديمة منها والحديث، عدم القدرة على الانعزال والعيش المنفرد، فليس هناك كائن بشري أو سياسي، قادرٌ على العيش وحيداً غير متصل بما وبمن يحيطون به، لذلك تراه ينسج علاقات، ويبني صداقات وتحالفات، بحثاً عن مصلحة أو منفعة. إن بعض هذه الصداقات والتحالفات قد يفرض على كلا طرفيها ليس مشاركة مغانم فقط، وإنما تقاسم المغارم أيضاً، والمشاركة في الدفاع عن المصالح المشتركة التي بنيت على أساسها الصداقة، أو عقد الحلف. 

نعتقد أن هذه المسببات الثلاثة لأخذ قرار الحرب، هي أم الدوافع التي تقف خلف إضطرار الدول والكيانات السياسية لأخذ قرارها، حيث يمكن اشتقاق عشرات الأسباب الفرعية، والثانوية، من هذه المحرضات الكلية. 

ثالثاً: ما هي محركات وقفها؟ 

الحرب حالة استثنائية، في العلاقات البشرية، لا يلجأ لها إلّا عند الإضطرار، واسنداد الأفق، وتعذر سبل وطرق الحل السلمية، وما هو أهم من معرفة: متى؟ وكيف؟ وأين تبدأ؟ معرفة: متى؟ وكيف؟ وتحت أي ظرف وشرط يجب أن تتوقف؟ وفي هذا السياق فإن أهم المواقف التي تدفع إلى إنهاء الحرب ما يأتي: 


  1. عندما يتم تحقيق الهدف السياسي منها:

فالحرب كما قيل في تعريفها هي استمرار للسياسية، ولكن بطرق أخرى، وهي أولاً وأخيراً قرارٌ سياسي بامتياز، يسعى خلف غايات كلية، لم يستطيع العمل الدبلوماسي تحقيقها، فعُهد إلى المستوى العسكري العمل على تأمين الموقف التعبوي والميداني الذي يمكن أن يترجم نصوصاً سياسية، قادرة على تأمين تلك الأهداف الكلية، فإن تأمن هذا الهدف التعبوي الميداني، فمقتضى الشرع والعقل والمصلحة هو وقف الحرب. 

  1. عند هزيمة العدو واستسلامه:

وهذا أمرٌ له في التاريخ القديم والحديث شواهد كثيرة، حيث تنتهي الحرب باستسلام العدو، ورفعه للراية البيضاء، وخضوعه لشروط المنتصر، عندها تصمت المدافع، وتطفئ نار الحرب، ويُذهب إلى ترجمة هذا النصر الحاسم، نصوصاً، وصكوكاً، تحفظ للمنتصر نصره، وتحقق له أهدافه. فمعركة خيبر كانت على هذه الشاكلة، وفتح مكة كذلك، واستسلام اليابان بعد قنبلتين نوويتين، مصداق مهم من مصاديق استسلام الدول، أما هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فهي أهم مصاديق معرفة كيفية الدخول في الحرب، وعدم معرفة كيف ومتى يخرج منها؟ الأمر الذي أحال النصر الألماني في أولها، إلى هزيمة، واستسلام مدو في آخرها.

  1. عندما يتوقف العدوان: 

قد تبادر دولة للاعتداء على دولة، فتفتح النار عليها، عندها لا مفر من خوض الحرب، ورد العدوان، والرد على النار بالنار، والقول للمعتدي أن لا سلام ولا استسلام، ووضعه ـ المعتدي ــ في موقف يفرض عليه وقف العدوان. في مثل هذا الموقف، فإن ما يوقف الحرب هو وقف العدوان الذي بادر به المعتدي، فإن توقف المُبادر، توقف المُعتدى عليه. وغني عن القول أن هذا الموقف يحمل في ثناياه إشارة إلى تفوق المُبادر بالحرب، على المُعتدى عليه، ولكن ليس بالصورة التي تدفع الثاني للخضوع والاستسلام للأول، لذلك فإن توقف العدوان يعني توقف الحرب. وكمصداق على هذا الموقف، يمكن الاستشهاد بالحملة الأمريكية على اليمن، والتي استمرت مدة خمسين يوماً ثم توقف المعتدي، فتوقف المُعتدى عليه. 

  1. عندما يصل الموقف الميداني إلى حالة استعصاء وتتحول الحرب إلى حالة استنزاف متبادل:

هذا الموقف يعني أن الفعل التعبوي الميداني أصبح يكرر نفسه، ولا يؤمن ( البضاعة) المطلوبة للسياسي ليستثمرها في أروقة المفاوضات، وتدخل الدول والكيانات في حالة استنزاف لا طائل منها، لذلك فإن مقتضى الدين والعقل والمصلحة، البحث عن مخرج من هذا الموقف، يُحفظ فيه ما تبقى من المصالح، وتوقف عجلة الخسائر البشرية والمادية. 

  1. عند تدخل وسطاء لهم في وقف الحرب مصلحة:

وهذا مشاهد في كل النزاعات والحروب، وعلى مدى التاريخ البشري، فالحروب والنزاعات الخشنية لا تتوقف أضرارها على من يخوضون غمارها فقط، بل قد يتعدى هذا الضرر ليطال المحيط القريب والبعيد، فيهدد مصالح غير المشاركين المنخرطين في الحرب، لذلك يعمد من له دالّة على طرفي الصراع، أو من يملك سلطة وسطوة فرض الرأي، فيتوسط بين المتخاصمين المتحاربين، ليوقف عجلة التدمير المتبادل، ويقترح من الحلول ما يؤمن مصالح الأطراف المتحاربة، فضلاً عن مصلحته هوَ.

  1. عندما تبدأ معادلة الجدوى والأكلاف تميل لصالح الثانية على حساب الأولى:

إن آخر معادلة يخضع لها قرار الحرب هي معادلة الجدوى والأكلاف، وتبقي نتيجة هذه المعادلة في عالم التقدير والتخمين، إلى أن تُمتَحن عملياً في الميدان، فإذا بدأت كفة الأكلاف ترجح على حساب كفة الجدوى، فالحرب إلى نهايتها أقرب، والبحث عن مخرج لها هو الأصوب، وبقاؤها يعني خسائر وأضرار لا طائل منها، سوى إرضاء لغرور، ناتج عن قلة فهم وقصور. 

رابعاً: خلاصة: 

في الخلاصة، الحرب كُره، وتمني لقاء العدو مكروه، والجهاد ذروة سنام الإسلام، ودفع العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا، ليس أوجب بعد الإيمان من رده، هذا هو الدين والشرع، ومقتضى السياسية الشرعية أن لا يدفع ضرر بما هو أكب منه. وقبل الدخول في الحرب، يجب التفكير في كيفية الخروج منها. والانحياز إلى فئة هو شكل من أشكال قطع التماس المفضي إلى وقف الحرب، وقد فعله سيف الله خالد في مؤته. وما يتراءى للبعض المراقب عن بعد أنه هزيمة أو خسارة أو تراجع أمام العدو، قد يراه الفاعل المباشر للفعل، المتلقى (لِحَمّ) السكين فرصة لأخذ النفس، ومعاودة الكرة من موقف قوة، والحرب سجال، يوم لنا من عدونا، ويوم لعدونا منا، والمهم أن لا تُفقد إرادة القتال في نفوس الرجال. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025